فصل: فَصْل في مساوئ حب الدنيا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في مساوئ حب الدنيا:

وأقل مَا فِي حبها أَنَّهُ يلهي عَنْ حب الله، وذكره، ومن ألهاه ماله عَنْ ذكر الله فهو من الخاسرين، قَالُوا: وإنما كَانَ حب الدُّنْيَا رأس الخطايا ومفسدًا للدين من وجوه، أحدها أنه يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عِنْدَ الله.
ومن أكبر الذُّنُوب تعَظِيم مَا حقره الله.
وثانيها: أن الله لعَنْهَا، ومقتها، وأبغضها إِلا مَا كَانَ لَهُ فيها، ومن أحب مَا لعنه الله، ومقته وأبغضه، فقَدْ تعرض للفتنة، ومقته وغضبه.
وثالثها: أَنَّهُ إِذَا أحبها صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخِرَة، فعكس الأَمْر وقلب الحكمة فانتكس قَلْبهُ، وانعكس سيره إلى وراء.
فها هنا أمران: أحدهما جعل الوسيلة غاية، والثاني التوسل بأعمال الآخِرَة إلى الدُّنْيَا، وَهَذَا شر معكوس من كُلّ وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ينطبق عَلَيْهِ حذو القذة بالقذة قوله تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً}، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ}.
أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَة ** فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ذَلِكَ

قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَمِّهَا ** وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا

آخر:
وَفي النَّفْسِ حَاَجاتٌ وَفي الْمَالِ الْقِلَّةٌ ** وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنُ

فهَذَا ثلاث آيات يشبه بعضها بَعْضًا وتدل على معنى واحد، وَهُوَ أن من أراد بعمله الدُّنْيَا وزينتها دون الله والدار الآخِرَة، فحظه مَا أراد، وَهُوَ نصيبه، لَيْسَ لَهُ نصيب غيره.
وَالأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مطابقة لِذَلِكَ مفسرة لَهُ، كحديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، الغازي والمتصدق، والقارئ الَّذِينَ أرادوا بذَلِكَ الدُّنْيَا والنصيب وَهُوَ فِي صحيح مُسْلِم.
وَمَا تَحْسُنُ الدُّنْيَا إِذَا هِيَ لَمْ تُعِنْ ** بِآخِرَةٍ حَسْنَاءَ يَبْقَى نَعِيمُهَا

آخر:
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت ** وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا

إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ ** وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا

فالعاقل من استعمل الدُّنْيَا فِي طاعة الله وجعلها مطية للآخرة.
لِمَنْ تَطْلُبِ الدُّنْيَا لَمْ تُرَدْ بِهَا ** رِضَا الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّة

وفي سنن النسائي عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ يَا رَسُول اللهِ: رجل غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا شَيْء لَهُ». فأعادها ثلاث مرات يَقُولُ لَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا شَيْء لَهُ». ثُمَّ قَالَ: «إن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا مَا كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه».
فهَذَا قَدْ بطل أجره وحبط عمله مَعَ أَنَّهُ قصد حصول الأجر لما ضم إليه قصد الذكر بين النَّاس فَلَمْ يخلص عمله فبطل كله.
قَالَ: ورابعها: أن محبتها تعترض بين الْعَبْد، وبين فعل مَا يعود عليه نفعه فِي الآخِرَة، لاشتغاله عَنْهُ بمحبوبه وَالنَّاس ها هنا مراتب.
فمِنْهُمْ من يشغله محبوبه عَنْ الإِيمَان، وشرائعه.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ الواجبات التي تجب عَلَيْهِ لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرًا ولا باطنًا.
وَمِنْهُمْ من يشغله حبها عَنْ كثير من الواجبات.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ القيام بالواجب فِي الوَقْت الَّذِي ينبغي على الوجه الَّذِي ينبغي فيفرط فِي وقته وفي حقوقه.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ عبوديته قَلْبهُ فِي الواجب، وتفريغه لله عِنْدَ أدائه، فيؤذيه ظاهرًا لا باطنًا، وأين هَذَا من عشاق الدُّنْيَا ومحبيها هَذَا من أنذرهم، وأقل درجات حبها أن يشغل عَنْ سعادة الْعَبْد وَهُوَ تفريغ الْقَلْب لحب الله، ولِسَانه لذكره وجمَعَ قَلْبهُ على لِسَانه وجمَعَ لِسَانه وقَلْبهُ على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخِرَة، ولا بد، كما أن محبة الآخِرَة تضر بالدُّنْيَا.
وخامسها: أن محبتها تجعلها أَكْثَر هم الْعَبْد.
وسادسها: أن محبتها أشد النَّاس عذابًا بها، وَهُوَ معذب فِي دوره الثلاث، يعذب فِي الدُّنْيَا بتحصيلها، وفي السعي فيها ومنازعة أهلها وفي دار البرزخ أي فِي القبر بفواتها، والحَسْرَة عَلَيْهَا، وكونه قَدْ حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدًا ولم يحصل لَهُ هناك محبوب يعوضه عَنْهُ.
فهَذَا أشد النَّاس عذابًا فِي قبره، يعمل الهم، والغم، والحزن والحَسْرَة، فِي روحه مَا تعمل الديدان وهوام الأَرْض في جسمه.
وسابعها: أن عاشقها ومحبها الَّذِي يؤثرها على الآخِرَة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحَقِيقَة، والمنام على اليقظة والظِلّ الزائل على النَّعِيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية إن اللبيب بمثلها لا يخدع.

.أمثلة تبين حَقِيقَة الدُّنْيَا:

ثُمَّ عقَدْ فصلاً وذكر فيه أمثلة تبين حَقِيقَة الدُّنْيَا:
المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال، حالة لم يكن فيها شَيْئًا، وهي مَا قبل أن يوَجَدَ، وحالة أخرى وهي من ساعة موته، إلى مَا لا نهاية لَهُ فِي البقاء السرمدي فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن، إما فِي الْجَنَّة وإما فِي النار.
ثُمَّ تعاد إلى بدنه، فيجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين فِي خلود دائم بين هاتين الحالتين وهي مَا بعد وجوده وَمَا قبل موته حالة متوسطة، وهي لأيام حَيَاتهُ فلينظر إلى مقدار زمانها، وينسبه إلى الحالتين، يعلم أَنَّهُ أقل من طرفة عين فِي مقدار عُمَر الدُّنْيَا.
ومن رأى الدُّنْيَا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فِي ضر وضيق أَوْ فِي سعة ورفاهية ولهَذَا لم يضع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وَقَالَ: «مَا لي وللدنيا، إِنَّمَا مثلي ومثل الدُّنْيَا كراكب قَالَ فِي ظِلّ شجرة، ثُمَّ راح وتركها».
وإلى هَذَا أشار المسيح بقوله عَلَيْهِ السَّلامُ: الدُّنْيَا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وَهُوَ مثل صحيح فَإِنَّ الحياة معبر إلى الآخِرَة، والمهد هُوَ الركن الأول، على أول القنطرة، واللحد هُوَ الركن الثاني على آخرها. ومن النَّاس من قطع نصف القنطرة.
وَمِنْهُمْ من قطع ثلثيها، وَمِنْهُمْ من لم يبق لَهُ إِلا خطوة واحدة، وهو غَافِل عَنْهَا وكيفما كَانَ فلابد مِنْ العبور، فمن وقف يبَنِي على القنطرة، ويزينها بأصناف الزينة، وَهُوَ يستحث على العبور فهو فِي غاية الجهل والحمق. المثال الثاني: شهوات الدُّنْيَا فِي الْقَلْب كشهوات الأطعمة فِي المعدة، وسوف يجد الْعَبْد عِنْدَ الموت لشهوات الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ من الكراهة والنتن والقبح مَا يجده للأطعمة اللذيذة إِذَا انتهت فِي المعدة، غايتها، وكما أن الأطعمة كُلَّما كَانَتْ ألذ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كَانَ رجيعها أقذر، فكَذَلِكَ كُلّ شهوة كَانَتْ فِي النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عِنْدَ الموت أشد، كما أن تفجع الإِنْسَان بمحبوبه إِذَا فقده يقوى بقدر محبه المحبوب.
طَالِبُ الدُّنْيَا بِحِرْصٍ وَعَجْل ** إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ مُنْتَقِلْ

نَحْنُ فِيهَا مِثْلُ رَكْبٍ نَازِلٍ ** لِمِقِيلٍ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلْ

قَالَ بَعْضُهُمْ يخاطب نَفْسهُ:
إلى مَ أَرَى يَا قَلْبُ مِنْكَ التَّرَاخِيَا ** وَقَدْ حَلَّ وَخْطُ الشَّيْبِ بِالرَّأْسِ ثَاوِيَا

وَأَخْبَرَ عَنْ قُرْبِ الرَّحِيلِ نَصِيحَةً ** فَدُونَكَ طَاعَاتٍ وَخَلِّ الْمَسَاوِيَا

وَعُضَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْكَ أَنَامِلاً ** وَفَجِّرْ مِنَ الْعَيْنِ الدُّمُوعَ الْهَوَامِيَا

فَكَمْ مَرَّةٍ وَافَقْتَ نَفْسًا مَرِيدَةً ** فَقَدْ حَمَّلَتْ شَرًّا عَلَيْكَ الرَّوَاسِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ أَحْدَثْتَ بِدْعًا لِشَهْوَةٍ ** وَغَادَرْتَ هَدْيًا مُسْتَقِيمًا تَوَانِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ أَمْرَ الإِله نَبَذْتَهُ ** وَطَاوَعْتَ شَيْطَانًا عَدُوًّا مُدَاجِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ قَدْ خُضْتَ بَحْرَ غِوَايَةٍ ** وَأَسْخَطْتَ رَبًّا بِاكْتِسَابِ الْمَعَاصِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ بِرَّ الإِلهِ غَمَضْتَهُ ** وَقَدْ صِرْتَ فِي كُفْرَانِهِ مُتَمَادِيَا

وَلا زِلْتَ بِالدُّنْيَا حَرِيصًا وَمُولَعًا ** وَقَدْ كُنْتَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَاهِيَا

فَمَا لَكَ فِي بَيْتِ الْبَلا إِذَ نَزَلْتَهُ ** عَنْ الأَهْلِ وَالأَحْبَابِ وَالْمَالِ نَائِيًا

فَتُسْأَلَ عَنْ رَبٍّ وَدِين مُحَمَّدٍ ** فَإِنْ قُلْتُ هَاهٍ فَادْرِ أَنْ كُنْتَ هَاوِيَا

وَيَأْتِيكَ مِنْ نَارِ سَمُوم أَلِيمَة ** وَتُبْصُرُ فِيهَا عَقْرَبًا وَأَفَاعِيَا

وَيَا لَيْتَ شَعْرِي كَيْفَ حَالُكَ إِذْ نُصِبْ ** صِرَاطٌ وَمِيزَانٌ يُبينُ الْمَطَاوِيَا

فَمَنْ نَاقَشَ الرَّحْمَنُ نُوقِشَ بَتّهً ** وَأُلْقِيَ فِي نَارٍ وَإِنْ كَانَ وَالِيَا

هُنَالِكَ لا تَجْزِيهِ نَفْسُ عَنْ الرَّدَى ** فَكُلُّ امْرِئٍ فِي غَمِّهِ كَانَ جَاثِيَا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قلوبنا على دينكوألهمنا ذكرك وشكرك اختم لَنَا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ إنَا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللَّهُمَّ أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رافة الْحَبِيب بحبيبه عِنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إلى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المثال الثالث: لها ولأهلها فِي اشتغالهم بنعيمها عَنْ الآخِرَة وَمَا يعقبهم من الحسرات مثل أَهْل الدُّنْيَا فِي غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بِهُمْ إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالْخُرُوج لِقَضَاءِ الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مُرُور السَّفِينَة.
فتفرقوا فِي نواحي الجزيرة، فقضى بَعْضهُمْ حاجته وبادر إلى السَّفِينَة فصادف المكَانَ خَالِيًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها.
ووقف بَعْضهُمْ فِي الجزيرة، ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمَعَ نغمَاتَ طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثُمَّ حدثته نَفْسهُ بفوات السَّفِينَة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها فَلَمْ يصادف إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا فجلس فيه.
وأكب بَعْضهُمْ على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل مَنْهَا حمله فَلَمَّا جَاءَ لم يجد فِي السَّفِينَة إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلاً عَلَيْهِ، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد لَهُ فِي السَّفِينَة مَوْضِعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فَلَمْ تنفعه الندامة، ثُمَّ ذبلت الأزهار، وتغيرت أريحها وآذاه نتنها.
وتولج بَعْضهُمْ فِي تلك الغياض، ونسي السَّفِينَة، وأبعد فِي نزهته، حَتَّى إن الملاح نادى بِالنَّاسِ، عِنْدَ دفع السَّفِينَة، فَلَمْ يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تَارَّة يتناول من الثمر وتَارَّة يشم تلك الأزهار وتَارَّة يعجب من حسن الأشجار.
وهو على ذَلِكَ خائف من سبع يخَرَجَ عَلَيْهِ، غير منفك من شوك يتشبث فِي ثيابه، ويدخل فِي قدميه أَوْ غصن يجرح بدنه أَوْ عوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، أَوْ صوت هائل يفزعه.
ثُمَّ من هؤلاء من لحق بالسَّفِينَة، ولم يبق فيها موضع، فمَاتَ على الساحل، وَمِنْهُمْ من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات وَمِنْهُمْ من تاه فهام على وجهه حَتَّى هلك، فهَذَا مثال أَهْل الدُّنْيَا فِي اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وَمَا أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هَشِيمًا.
المثال الرابع: لاغترار النَّاس بالدُّنْيَا، وضعف إيمانهم بالآخِرَة أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: «إِنَّمَا مثلي ومثلكم ومثل الدُّنْيَا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حَتَّى إِذَا لم يدروا مَا سلكوا مَنْهَا أَكْثَر أم مَا بقي، أنفذوا الزَّاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زَادَ ولا حمولة، فأيقنوا بِالْهَلَكَةِ. فبينما هم كَذَلِكَ، إذ خَرَجَ عَلَيْهمْ رجل فِي حلية يقطر رأسه، فَقَالُوا: إن هَذَا قريب عهد بريف، وَمَا جاءكم هَذَا إِلا من قريب، فَلَمَّا انتهى إليهم، قَالَ: يَا هؤلاء علام أنتم؟ قَالُوا: على مَا تَرَى. قَالَ: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر مَا تجعلون لي؟ قَالُوا: لا نعصيك شَيْئًا. قَالَ: عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ. قَالَ: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بِاللهِ لا يعصونه شَيْئًا. قَالَ: فأوردهم ماء ورياضًا خضرًا قَالَ: فمكث مَا شَاءَ الله.
ثُمَّ قَالَ: يَا هؤلاء الرحيل، قَالُوا إلى أين، قَالَ إلى ماء لَيْسَ كمائكم ورياض لَيْسَتْ كرياضكم، قَالَ: فَقَالَ جل القوم، وهم أكثرهم: وَاللهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظننا أن لن نجده، وَمَا تصنع بعيش هُوَ خَيْر من هَذَا؟»
.
عَلَى الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا السَّلامُ ** إِذَا مَلَكَتْ خَزَائِنَهَا اللِّئَامُ

قَالَ: «وقَالَتْ طائفة: وهم أقلهم: ألم تعطوا هَذَا الرجل عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ لا تعصونه شَيْئًا، وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم فِي آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عَدُوّهمْ، فأصبحوا بين أسير وقتيل».
إِذَا عَاجِلَ الدُّنْيَا أَلَمْ بِمَفْرَحٍ ** فَمَنْ خَلفهُ فَجْعٌ سَيَتْلُوُه آجِلُ

وَكَانَتْ حَيَاةُ الْحَيِّ سَوْقًا إلى الرَّدَى ** وَأَيَّامُهُ دُونَ الْمَمَاتِ مَرَاحِلُ

وَمَا لُبْثَ مَنْ يَغْدُو وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ ** لَهُ أَجْلٌ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ قَاتِلُ

وَلِلْمَرْءِ يَوْمٌ لا مَحَالَة مَا لَهُ ** غَدٌ وَسْطَ عَامٍ مَا لَهُ الدَّهْرَ قَابِلُ

كَفَانَا اعْتِرَافًا بِالْفَنَاءِ وَرُقْبَةً ** لِمَكْرُوهِهِ أَنْ لَيْسَ لِلْخُلْدِ آمِلُ

آخر:
أَرَانِي بِِحَمْدِ اللهِ فِي الْمَال زَاهِدًا ** وَفِي شَرَفَ الدُّنْيَا وَفِي الْعِزَّ أَزْهَدَا

تَخَلَّيْتُ عَنْ دُنْيَايَ إِلا ثَلاَثَةً ** دَفَاتِرَ مِنْ عِلْمٍ وَبَيْتًا وَمَسْجِدَا

غَنَيْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَوَيْتُهُ ** وَكُنْتُ بِهَا أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَسْعَدَا

وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَزِيز مُشرَفٍ ** يَبِيتُ مَقَرًا بِالضَّلالَةِ مُجْهِدَا

أَتَتْهُ الْمَنَايَا وَهُوَ فِي حِين غَفْلَةٍ ** فَأَضْحَى ذَلِيلاً فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وثَبِّتْ إيماننا ونور بصائرنا واهدنا سبل السَّلام وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن، وألهمنا ذكرك وشكرك واعمر أوقاتنا بتلاوة كتابك وأرزقنا التدبر لَهُ والْعَمَل به فِي الدقيق والجليل وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
المثال الخامس للدنيا وأهلها، وَمَا مثلها به صلى الله عليه وسلم كظِلّ شجرة، والمرء مسافر فيها إِلَى اللهِ، فاستظِلّ فِي ظِلّ تلك الشجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها.
فتأمل حسن هَذَا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فَإِنَّهَا فِي خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شَيْئًا فشَيْئًا كالظِلّ والْعَبْد مسافر إلى ربه، والمسافر إِذَا رأى شجرة فِي يوم صائف لا يحسن به أن يبَنِي تحتها دارًا، ولا يتخذها قَرَارًا، بل يستظِلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زَادَ على ذَلِكَ انقطع عَنْ الرفاق.
المثال السادس تمثيله لها صلى الله عليه وسلم بمدخل إصبعه فِي الْيَمِّ، فالَّذِي يرجع به إصبعه من البحر هُوَ مثل الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَة.
المثال السابع مَا مثلها به صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث المتفق على صحته مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم، على المنبر وجلسنا حوله، فَقَالَ: «إن مِمَّا أخاف عليكم من بعدي مَا يفتح عليكم من زهرة الدُّنْيَا، وزينتها». فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ! أَوْ يأتي الْخَيْر بالشر؟ فصمت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: كيف قُلْتُ؟ قَالَ: يَا رَسُول اللهِ أَوْ يأتي الْخَيْر بالبشر، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الْخَيْر لا يأتي إِلا بالْخَيْر، وإن مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم إِلا آكلة الخضر، أكلت حَتَّى إِذَا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثُمَّ اجترت فَعَادَتْ فأكلت. فمن أخذ مالاً بحقه بورك لَهُ فيه، ومن أخذ مالاً بغير حق، فمثله كمثل الَّذِي يأكل ولا يشبع». فأخبر صلى الله عليه وسلم أن مِمَّا يخاف عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، وسماها زهرة، فشبهها بالزهر، فِي طيب رائحته وحسن منظره، وقلة بقائه.
فهذه الفقرة اليسيرة، من جوامَعَ كلمه صلى الله عليه وسلم، حوت على إيجازها بشارة الصحابة الكرام بما سيكون على أيديهم، من فتح الْبِلاد، وإخضاع العباد، وجلب الأموال الطائلة، والغنائم الكثيرة، وتحذيرهم من الغرور، والركون إلى هَذِهِ الأَشْيَاءِ الفانية، والأعراض الزائلة.
وضرب صلى الله عليه وسلم مثلين حكيمين أحدهما مثل المفرط فِي جمَعَ الدُّنْيَا، والآخِر مثل المقتصد فيها، أما الأول، فمثله مثل الربيع وَذَلِكَ قوله فَإِنَّ مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم، بأن يقارب الهلاك.
فهَذَا المطر ماء ينزله الله لإغاثة الخلق وإرواء كُلّ ذي روح فرغم فوائده الكثيرة ومنافعه الغزيرة وَمَا يتسبب عَنْ ذَلِكَ من إنبات العشب والكلاء، يأكل منه الْحَيَوَان فيكثر فينتفخ بطنه، فيهلك أَوْ يقارب الهلاك، وكَذَلِكَ الَّذِي يكثر من جمَعَ الْمَال، يكون عنده من الجشع والشره، والحرص، مَا يتجاوز به الحد، لاسيما إِذَا جمَعَ الْمَال من غير حله، ومنع ذَا الْحَقّ حقه، فَإِنَّ لم يقتله قارب أن يقتله.
تَوَقَّ مَصَارِعَ الْغَفَلاتِ وَاحْذَرْ ** فَلَيْسَتْ زِينَةُ الدُّنْيَا بِزِينَةْ

وَقَصْرُكَ عَنْ هَوَاكَ فَكُلُ نَفْسٍ ** غَدَاةَ غدٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةْ

هِيَ الدُّنْيَا تَمُوجُ كَمَا تَرَاهَا ** بِمَا فِيهَا فَشَأْنَكَ وَالسَّفِينَةْ

آخر:
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ** وَالْجُهُولُ الْجَهُولُ مَنْ يَصْطَفِيهَا

مَا مَضَى فَاتَ وَالْمَؤمَّلُ غَيْبٌ ** وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا

آخر:
وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا ** وَلَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الْوُصُولِ

آخر:
وَمَنْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ حَقِيرَةٍ ** فَقَدْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ الحَقِيقَة

ولِذَلِكَ كثير من أَهْل الأموال قتلتهم أموالهم فَإِنَّهُمْ شرهوا فِي جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فَلَمْ يصلوا إلى ذَلِكَ إِلا بقتلهم، أَوْ مَا يقارب ذَلِكَ من إذلالهم وقهرهم والضغط عَلَيْهمْ.
وأما المثال الثاني: وَهُوَ مثال المقتصد فِي جمَعَ الدُّنْيَا، الطالب لحلها، فقَدْ مثل لَهُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِلا آكلة الخضر». فكأنه قَالَ ألا انظروا آكلة الخضراء، واعتبروا بشأنها «أكلت حَتَّى إِذَا امتدت خاصرتاها» وعظم جنباها، أقلعت سريعًا استقبلت عين الشمس تستمرئ بذَلِكَ مَا أكلت وتجتره فثلطت ألقت مَا فِي بطنها من أذى سهلاً رقيقًا.
وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت». ثلاث فَوَائِد أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وبركت مستقبلة عين الشمس، تستمرئ. الفائدة الثَّانِيَة أنها أعرضت عما يضرها من الشره فِي المرعى، وأقبلت على مَا ينفعها، مِنِ استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج مَا أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط مَا جمعته من المرعى فِي بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، هكَذَا جامَعَ الْمَال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هَذِهِ الشاة فتنبه لِذَلِكَ أيها المغفل الجموع المنوع.
وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ** هِيَ السِّحْرُ فِي تَخْيِيلِهِ وَافْتِرَائِه

مَتَاعُ غُرُورٍ لا يَدُومُ سُرُورُهَا ** وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِبَهَائِهِ

فَمَنْ أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا ** وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذَنَتْ بِبُكَائِهِ

وَمَنْ تُسْقِهِ كَأْسًا مِنْ الشَّهْدِ غُدْوَةً ** تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى فِي مَسَائِهِ

وَمَنْ تَكْسُ تَاجَ الْمُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً ** بِأَيْدِي الْمَنَايَا أَوْ بِأَيْدِي عَدَائِهِ

أَلا إِنَّهَا لِلْمَرْءِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِدَا ** وَيَحْسَبُهَا الْمَغْرُورُ مِنْ أَصْدِقَائِهِ

فَلَذَّاتُهَا مَسْمُومَةٌ وَوَعُودُهَا ** سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِنْ عَنَائِهِ

وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا ** وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِنْ أَصْفِيَائِهِ

فَدُونَكَ آيَاتِ الْكِتَابِ تَجِدْ بِهَا ** مِن الْعِلْمِ مَا يَجْلُوا الصَّدَا بِجَلائِهِ

وَمَنْ يَكُ جَمْعُ الْمَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ ** فَمَا قَلْبهُ إِلا مَرِيضًا بِدَائِهِ

فَدَعْهَا فَإِنَّ الزُّهْدَ فِيهَا مُحَتَّمٌ ** وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الْوَرَى بِأَدَائِهِ

وَمَنْ لَمْ يَذَرْهَا زَاهِدًا فِي حَيَاتِهِ ** سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ

فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيعًا بِقَبْرِهِ ** رَهِينًا أَسِيرًا آيِسًا مِن وَرَائِهِ

وَيَنْسَاهُ أَهْلُوهُ الْمُفَدَّى لَدَيْهِمُ ** وَتَكْسُوهُ ثَوْبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ

وَيَنْتَهِبُ الْوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ الَّتِي ** عَلَى جَمْعِهَا قَاسَى عَظِيمَ شَقَائِهِ

وَتُسْكِنَهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرَةً ** يَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ

يُقِيمُ بِهَا طولَ الزَّمَانِ وَمَا لَهُ ** أَنِيسٌ سِوَى دُودٍ سَعَى فِي حَشَائِهِ

فَوَاهًا لَهَا مِنْ غُرْبَةٍ ثُمَّ كُرْبَةٍ ** وَمِنْ تُرْبَةٍ تَحْوِي الْفَتَى لِبَلائِهِ

وَمَنْ بَعْدَ ذَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَهَوْلُهُ ** فَيُجْزَى بِهِ الإِنْسَانُ أَوْ فِي جَزَائِهِ

وَلا تَنْسَ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَالْمَوْتُ غَائِبٌ ** وَلا بُدَّ يَوْمًا لِلْفَتَى مِنْ لِقَائِهِ

قَضَى اللهُ مَوْلانَا عَلَى الْخَلْقِ بِالْفَنَا ** وَلا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ

فَخُذْ أُهْبَةً لِلْمَوْتِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ** لَتَغْنَمَ وَقْتَ الْعُمْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ

وَإِيَّاكَ وَالآمَالَ فَالْعُمْرُ يَنْقَضِي ** وَأَسْبَابُهُا مَمْدُودَةٌ مِنْ وَرَائِهِ

وَحَافِظْ عَلَى دِينِ الْهُدَى فَلَعَلَّهُ ** يَكُونُ خِتامَ الْعُمْرِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ

فَدُونَكَ مِنِّي فَاسْتَمِعْهَا نَصِيحَةً ** تُضَارِعُ لَوْنَ التِّبْرِ حَالَ صَفَائِهِ

وَصَلَّى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُسَلِّمًا ** سَلامًا يَفُوقُ الْمِسْكَ عَرْفَ شَدَائِهِ

عَلَى خَاتِمِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ ** وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ أَهْل كَسَائِهِ

وَاتْبَاعِهِمْ فِي الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبَا ** رِيَاضُ سَقَاهَا طَلَّهَا بِنَدَائِه

اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وأرزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.